فصل: تفسير الآيات (30- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (30- 34):

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}
وقوله سبحانه: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عَن نَّفْسِهِ}: {نِسْوَةٌ}: جمع قلَّة، وجمعُ التكثير نساءٌ، ويروَى أنَّ هؤلاء النسوة كُنَّ أربعاً: امرأة خبَّازَة، وامرأة ساقية، وامرأة بَوَّابة، وامرأة سَجَّانة، والعزيزُ: المَلِك، والفَتَى: الغلام، وعُرْفُه في المملوك، ولكنَّه قد قيل في غير المملوك؛ ومنه: {وَإِذْ قَالَ موسى لفتاه} [الكهف: 60]، وأصل الفتى، في اللغة: الشَّابُّ، ولكن لما كان جُلُّ الخَدَمَةِ شَبَاباً، استعير لهم اسم الفتَى، و{شَغَفَهَا}: معناه بَلَغَ حتَّى صار مِنْ قلبها موضِعَ الشِّغافِ، وهو؛ على أكثر القولِ: غِلاَفٌ من أغشية القَلْبِ.
وقيل: الشِّغاف: سويداءُ القَلْبِ.
وقيل: الشِّغَافُ: داءٌ يصلُ إِلى القلب.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}؛ ليحضُرْن.
{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَكَأً}: أي: أعَدَّتْ ويَسَّرت ما يُتَّكَأُ عليه من فُرُشٍ ووسَائِد وغَيْرِ ذلك، وقرأ ابن عباس وغيره: {مُتْكاً}- بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف-، واختلف في معناها، فقيل: هو الأُتْرُنْجَ، وقيل: هو اسمٌ يعمُّ جميع ما يُقْطَعُ بالسِّكِّين، وقولها: {اخرج عَلَيْهِنَّ}: أمر ليوسف، وأطاعها بحسب المُلْك.
وقوله: {أَكْبَرْنَهُ}: معناه: أعظمنْهُ واستهولن جَمَاله، هذا قولُ الجمهور.
{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}: أي: كَثَّرْنَ الحَزَّ فيها بالسَّكَاكين، وقرأ أبو عمرو وحده: {حاشَى للَّهِ}، وقرأ سائر السبعة: {حَاشَ لِلَّهِ}، فمعنى {حَاشَ للَّهِ}: أي: حاشَى يوسُفَ؛ لطاعته للَّه، أو لمكانه من اللَّهِ أنْ يرمَى بِمَا رَمَيْتِهِ به، أوْ يدعَى إِلى مثله، لأَنَّ تلْكَ أفعال البشر، وهو لَيْسَ منهم، إِنما هو مَلَكٌ، هكذا رتَّب بعضهم معنَى هذا الكلامِ على القراءَتَيْنِ، وقرأ الحسنُ وغيره: {مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلِكٌ كَرِيمٌ}- بكسر اللام من {مَلِك}؛ وعلى هذه القراءة، فالكلامُ فصيحٌ: لَمَّا استعظمن حُسْنَ صورته، قُلْنَ ما هذا مما يَصْلُح أنْ يكون عبداً بشَراً، إِنْ هذا إِلا مما يَصْلُح أنْ يكون مَلِكاً كريماً.
* ت *: وفي صحيح مسلم من حديث الإِسراء: «ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا بِيُوسُفَ صلى الله عليه وسلم، وإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ» انتهى.
وقولها: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}: المعنى: فهذا الذي لُمْتُنَّنِي فيه، وقطعتُنَّ أيديَكُنَّ بسببه: هو الذي جَعَلَنِي ضالَّةً في هواه، ثم أقرَّت امرأة العزيزِ للنِّسوة بالمراودة، واستأمنت إِليهن في ذلك؛ إِذْ عَلِمَتْ أَنهنَّ قد عَذَرْنَهَا.
و{استعصم} معناه طلب العِصْمة، وتمسَّك بها، وعَصَاني، ثم جعلَتْ تتوعَّده، وهو يسمع بقولها.
{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ...} إِلى آخر الآية.
* ت *: واعترض * ص *: بأنَّ تفسيرُ {استعصم} ب اعتصم أولى من جعله للطَّلبِ، إِذ لا يلزم من طلب الشيء حصُولُه. انتهى، واللام في {لَيُسْجَنَنَّ}: لام قَسَمٍ، واللام الأولَى هي المؤذنَةُ بالمجيء بالقَسَمِ، والصاغرون: الأذلاَّء، وقَوْلُ يوسُفَ عليه السلام: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ} إِلى قوله: {مِّنَ الجاهلين}، كلامٌ يتضمَّن التشكِّيَ إِلى اللَّه تعالى من حاله معهن، و{أَصْبُ}: مأخوذ من الصَّبْوَة، وهي أفعالُ الصِّبا، ومن ذلك قولُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: [الطويل]
صَبَا مَا صَبَا حَتَّى عَلاَ الشَّيْبُ رَأْسَه ** فَلَمَّا عَلاَهُ قَالَ لِلْبَاطِلِ ابعد

قال * ص *: {أصْبُ} معناه: أَمِلْ، وهو جوابُ الشرطِ، والصَّبابة: إِفراط الشوْقِ. انتهى.
{فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} أي: أجابه إِلى إِرادته، وصَرَفَ عنه كَيْدُهِنَّ؛ في أنْ حال بيْنَه وبين المَعْصية.

.تفسير الآية رقم (35):

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
وقوله سبحانه: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ}: {بَدَا} معناه: ظهر، ولما أبَى يوسُفُ عليه السلام من المعصية، وَيَئِسَتْ منه امرأة العزيزِ، طالبته بأَنْ قالتْ لزوجها: إِنَّ هذا الغُلاَمَ العِبْرَانِيَّ قد فَضَحَنِي في النَّاس، وهو يَعْتَذِرُ إِليهم، ويَصِفُ الأَمْرَ بحَسَب اختياره، وأنا محبوسَةٌ محجوبَةٌ، فإِما أَذنْتَ لي، فخرجْتُ إِلى الناس، فاعتذرت وكذَّبته، وإِما حَبَسْتَه كما أنا محبوسةٌ، فحينئذٍ بَدَا لَهُمْ سَجْنُهُ.
* ع *: و{لَيَسْجُنُنَّهُ}: جملة دخَلَتْ عليها لام قسمٍ، و{الأيات}: ذكر فيها أهْلُ التفسير؛ أنها قَدُّ القميص، وخَمْشُ الوجهِ، وحَزُّ النساءِ أيديَهُنَّ، وكلامُ الصبيِّ؛ على ما رُوِيَ.
قال * ع *: ومَقْصِدُ الكلامِ إِنما هو أنهم رَأَوْا سَجْنه بعد ظهورِ الآياتِ المُبَرِّئة له مِنَ التهْمة، فهكذا يَبِينُ ظُلْمُهم لَهُ وَال {حِينٍ}؛ في كلام العرب، وفي هذه الآية الوَقْت من الزمان غَير محدودٍ يقع للقليلِ والكثيرِ، وذلك بَيِّن من موارده في القرآن.

.تفسير الآيات (36- 38):

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)}
وقوله سبحانه: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ...} الآية: المعنى: فسجَنُوهُ، فَدَخَلَ معه السجْنَ، غلامانِ سُجِنَا أيضاً، ورُوِيَ أنهما كانا للمَلِكِ الأعظَمِ الوَلِيدِ بْنِ الرَّيَّانِ؛ أحدهما: خَبَّازه، واسمه مجلث، والآخر: ساقيه، واسمه نبو، ورُوِيَ أَنَّ المَلِكَ اتهمهما بأن الخَبَّاز منهما أرادَ سَمَّه، ووافَقَهُ على ذلك السَّاقِي، فسجنهما، قاله السديُّ، فلما دخل يوسُفُ السجْنَ، استمال الناسَ فيه بحُسْن حديثه وفَضْله ونبله، وكان يُسَلِّي حزينهم، ويعودُ مريضَهُمْ، ويسأل لفقيرِهِمْ، ويندُبُهُمْ إِلى الخيرِ، فأَحبه الفَتَيَانِ، ولزماه، وأحبه صاحِبُ السجْنِ، والقَيِّم عليه، وكان يوسُفُ عليه السلام قد قال لأَهْلِ السجْنِ: إِني أَعْبُرُ الرؤيا، وأَجيدُ، فرُوِيَ عن ابن مسعودٍ: أن الفتَيَيْنِ استعملا هاتَيْنِ المنَامَتَيْنِ ليجرِّباه. وروي عن مجاهدٍ: أَنهما رأيا ذلك حقيقةً، قال أحدهما: إِني أراني أعصرُ خَمْراً: قيل فيه: إِنه سَمَّى العِنَبَ خمراً، بالمآلِ، وقيل: هي لغةُ أزدِ عُمَان؛ يسمُّون العِنَبَ خَمْراً، وفي قراءة أُبيٍّ وابن مسعودٍ: {أَعْصِرُ عِنَباً}.
وقوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}: قال الجمهور: يريدان في العِلْم، وقال الضَّحَّاك وقتادة: المعنى: من المحسنين في جَرْيه مع أهْل السِّجْنِ وإِجماله معهم.
وقوله عزَّ وجلَّ: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا}: رُويَ عن السُّدِّيِّ وابن إِسحاق: أن يوسُفَ عليه السلام لما عَلِمَ شدَّة تعبيرِ مَنَامَةِ الرائي الخُبْزَ، وأنها تُؤْذِنَ بقتله، ذهب إِلى غير ذلك من الحديثِ عَسَى أَلاَّ يطالباه بالتعْبير، فقال لهما؛ مُعْلِماً بعظيمِ عِلْمِهِ للتعبيرِ: إِنه لا يجيئُكما طعَامٌ في نومكما تَرَيَانِ أَنكما رُزِقْتُمَاهُ إِلاَّ أعلمتكما بتأويلِ ذلك الطَّعَامِ، أي: بما يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمره في اليقظة قَبْلَ أن يظهر ذلك التأويلُ الذي أُعْلِمُكُما به، فرُوِيَ أنهما قالا: ومِنْ أينَ لَكَ ما تَدَّعيه مِنَ العِلْمِ، وأنْتَ لَسْتَ بِكَاهِنٍ ولا منجِّم؟! فقالَ لهما: ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي، ثم نهض يُنْحِي لهما على الكُفْر ويقبِّحه، ويحسِّن الإِيمان باللَّه، فرُوِيَ أنه قصد بذلك وجْهَيْنِ؛ أَحدهما: تنسيَتُهما أمْرَ تعبيرِ ما سألا عنْه؛ إِذ في ذلك النِّذَارةُ بقَتْل أحدهما، والآخر: الطماعيَةُ في إِيمانهما؛ ليأخذ المَقْتُولُ بحظِّه من الإِيمان، وتسلم له آخرته، وقال ابنُ جُرَيْج: أراد يوسُفُ عليه السلام لا يأتيكما طعامٌ في اليقظة.
قال * ع *: فعلى هذا إِنما أعلمهم بأنه يعلم مغيَّباتٍ لا تعلُّق لها برؤْيَا، وقصد بذلك أحَدَ الوجهَيْنِ المتقدِّمين، وهذا على ما روي أنه نبئ في السجن فإِخباره كإِخبار عيسَى عليه السلام.
وقوله: {تَرَكْتُ}، مع أنه لم يتشبَّثْ بها جائزٌ صحيحٌ؛ وذلك أنه أخبر عن تجنّبه من أول بالترك، وساق لفظ التَّرْك استجلابا لهما عسَى أن يتركا الترْكَ الحقيقيَّ الذي هو بَعْد الأخْذ في الشيء، والقَوْمُ المتروكُ ملتهم: المَلِكَ وأتباعه.
وقوله: {واتبعت...} الآية: تمَادٍ من يوسُفَ عليه السلام في دعائهما إِلى الملَّة الحنيفيَّة.
وقوله: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ}، {مِنْ}: هي الزائدةُ المؤكِّدة التي تكونُ مع الجُحُودِ.
وقوله: {لاَ يَشْكُرُونَ}: يريد: الشكْرَ التَّامَّ الذي فيه الإِيمانُ باللَّه عزَّ وجلَّ.

.تفسير الآيات (39- 42):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}
وقوله: {ياصاحبي السجن ءأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار}: وصْفُه لهما ب {ياصاحبي السجن} من حيثُ سُكْنَاه؛ كما قال: {أصحاب الجنة} و{أصحاب النار} ونحو ذلك، ويحتمل أن يريد صُحْبَتَهُما له في السِّجْنِ، كأنه قال: يا صَاحِبَايَ في السجْنِ، وعرْضُه عليهما بطلاَن أمْرِ الأوثان بأنْ وصَفَها بالتفرُّق، ووَصْفُ اللَّه تعالى بالوَحْدة والقَهْر تلطُّفٌ حَسَنٌ، وأخْذٌ بيسيرِ الحُجَّة قبل كثيرها الذي ربَّما نَفَرَتْ منه طباعُ الجَاهِلِ وعانَدَتْه، وهكذا الوجْهُ في محاجَّة الجاهِلِ: أَنْ يؤخَذَ بدَرَجَةٍ يسيرةٍ من الاحتجاج يقبلها، فإِذا قبلها، لزمته عَنْها درجةٌ أخرى فوقها، ثم كذلك أبداً حتى يصلَ إِلى الحقِّ، وإِن أُخِذَ الجاهلُ بجميعِ المَذْهَبِ الذي يُسَاقُ إِليه دفعةً أباه للحين وعانَدَهُ، ولقد ابتلي بأربابٍ متفرِّقين مَنْ يَخْدُم أبناء الدنيا ويؤمِّلهم.
وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً}: أي: مسمَّيات، ويحتملُ- وهو الراجحُ المختار- أن يريد: ما تَعْبُدُون من دونه ألوهيَّة، ولا لكُمْ تعلُّق بإله إِلا بحَسَبِ أنْ سمَّيْتُمْ أصنامكم آلهةً، فليستْ عبادتكم للَّه إِلا بالاسم فقطْ لا بالحقيقة، وأما الحقيقة: فَهِيَ وسائرُ الحجارة والخَشَب سواءٌ، وإِنما تعلَّقت عبادتكم بحَسَبِ الاسم الذي وضعت، فذلك هو مبعودُكُمْ، ومفعولُ سميتم الثاني محذوفٌ، تقديره: آلهة؛ هذا على أن الأسماء يراد بها ذواتُ الأصنام، وأما على المعنى المُخْتارِ من أنَّ عبادتهم إِنما هي لمعانٍ تعطيها الأسماءُ، وليسَتْ موجودةً في الأصنام، فقوله: {سَمَّيْتُمُوهَا} بمنزلةِ وضَعْتُمُوهَا، {إِنِ الحكم إِلاَّ لِلَّهِ}: أي ليس لأصنامكم، و{القيم}: معناه المستقيمُ، و{أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}؛ لجهالتهم وكُفْرهم، ثم نادَى: {ياصاحبي السجن} ثانيةً؛ لتجتمع أنفسهما، لسماعِ الجواب، فروي أنه قال لنبو: أمَّا أنْتَ، فتعودُ إِلى مرتبتك وسقايةِ ربِّك، وقال لمجلث: أما أنْتَ، فتُصْلَب، وذلك كلَّه بعد ثلاثٍ، فروي أنهما قالا له: ما رَأَيْنَا شيئاً، وإِنما تحالمنا لنجرِّبك، وروي أنه لم يَقُلْ ذلك إِلا الذي حدَّثه بالصَّلْبِ، وقيل: كانا رَأَيَا، ثم أنْكَرا، ثم أخبرهما يوسُفُ عَنْ غَيْبِ عِلمَهُ من اللَّه تعالى، أَن الأمر قد قُضِيَ ووافَقَ القدر.
وقوله: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا...} الآية: الظَّنُّ؛ هنا: بمعنى اليقين؛ لأن ما تقدَّم من قوله: {قُضِيَ الأمر} يلزم ذلك، وقال قتادة: الظنُّ هنا على بابه؛ لأن عبارة الرؤْيا ظنٌّ.
قال * ع *: وقول يوسف عليه السلام: {قُضِيَ الأمر}: دالٌّ على وحْيٍ، ولا يترتَّب قول قتادة إِلا بأَن يكون معنى قوله: {قُضِيَ الأمر}: أيْ: قُضِيَ كلامِي، وقلْتُ ما عِنْدي، وَتَمَّ، واللَّه أعلم بما يكُونُ بَعْدُ، وفي الآية تأويلٌ آخر: وهو أن يكون {ظَنَّ} مسنداً إِلى الذي قيل له: إِنه يسقي ربه خمراً؛ لأنه داخَلَه السرور بما بُشِّر به، وغلَبَ على ظَنِّه ومعتَقَدِهِ أَنه ناج.

.تفسير الآيات (43- 45):

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)}
وقوله سبحانه: {وَقَالَ الملك إِنِّي أرى سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}: روي أنه قال: رَأَيْتُهَا خَارجةً من نَهْرٍ، وخرجَتْ وراءَها سَبْعٌ عِجاف، فأكلَتْ تلك السِّمان، وحَصَلَتْ في بطونها، ورأى السنابلَ أيضاً؛ كما ذكر، وال {عِجَافٌ}: التي بَلَغَتْ غايةَ الهُزَال، ثم قال لحاضريه: {ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِي رءياي إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ}، وعبارة الرؤية: مأخوذة منْ عَبْرِ النَّهْرِ، وهو تجاوزه مِنْ شَطٍّ إِلى شَطِّ، فكأنَّ عابر الرؤيا يَنْتَهِي إِلى آخر تأويلها.
قال * ص *: وإِنما لم يضفْ {سبع} إِلى عِجَافٍ؛ لأنَّ اسم العدد لا يضاف إِلى الصفة إِلا في الشِّعْرِ، انتهى.
وقولهُ سبحانه: {قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ...} الآية: الضِّغْثِ؛ في كلام العرب: أقَلُّ من الحُزْمة، وأكثَرُ من القَبْضة من النباتِ والعُشْبِ ونحوه، وربَّما كان ذلك مِنْ جنْسٍ واحدٍ، وربما كان من أخْلاَط النباتِ، والمعنى: أنَّ هذا الذي رأَيْتَ أيها الملكُ اختلاط من الأحلامِ بسَبَبِ النوم، ولسنا من أهْلِ العلْمِ بما هو مختلطٌ ورديءٌ، وال {أَحْلاَمٍ}: جمع حُلْم، وهو ما يخيَّل إِلى الإِنسان في منامه، والأحلام والرؤيا ممَّا أثبتَتْه الشريعةُ، وقال رُسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ مِنَ المُبَشِّرَةِ وَالحُلْمُ المُحْزِنُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْتُ، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ» وما كان عن حديث النفْسِ في اليقظة، فإِنه لا يلتفت إِليه، ولما سمع الساقي الذي نجا هذه المقالَةَ من المَلِكِ، ومُرَاجَعَةَ أصحابه، تذكَّر يوسُف، وعلْمَهُ بالتأويل، فقال مقالَتَه في هذه الآية، {وادكر}: أصله: اذتكر من الذِّكْرِ، فقلبتِ التاء دالاً، وأدغم الأول في الثاني، وقرأ جمهور الناس: {بَعْدَ أُمَّةٍ}، وهي المدَّة من الدهر، وقرأ ابن عباس وجماعة: {بَعْدَ أَمَةٍ}، وهو النسيانُ، وقرأ مجاهد وشبل: {بَعْدَ أَمْةٍ}- بسكون الميم-، وهو مصْدَرٌ من أَمِهَ؛ إِذا نَسِيَ، وبقوله: {ادكر} يقوِّي قول من قال: إِن الضمير في {أنساه} عائدٌ على الساقي، والأمر محتمل، وقرأ الجمهور: {أَنا أُنَبِّئُكُمْ}، وقرأ الحسن بْنُ أَبي الحسن: {أَنَا آتِيكُمْ}، وكذلك في مُصْحَف أُبيٍّ.
وقوله: {فَأَرْسِلُونِ}: استئذان في المُضِيِّ.

.تفسير الآيات (46- 49):

{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}
وقوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا}: المعنى: فجاء الرسُولُ، وهو الساقِي، إِلى يوسُفَ، فقال له: يوسُفُ أيها الصديق، وسمَّاه صِدِّيقاً من حيث كانَ جَرَّب صَدقه في غَيْرِ ما شَيْءٍ، وهو بناء مبالغة مِنَ الصِّدْق، ثم قال له: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بقرات}، أي: فيمَنْ رأَى في المنامِ سَبْعَ بقراتٍ.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}، أي: تأويل هذه الرؤيا، فيزولَ هَمُّ المَلِكِ لذلك، وهَمُّ الناس، وقيل: {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} مكانَتَك من العلْمِ، وكُنُهَ فضلك؛ فيكونَ ذلك سبباً لتخلُّصك و{دَأَبًا}: معناه: ملازمةً لعادَتِكم في الزِّراعة.
وقوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ}: إِشارة برَأْي نافعٍ؛ بحسب طعامِ مِصْرَ وحِنْطَتِهَا التي لا تبقَى عامين بوجْهٍ إِلا بحيلةِ إِبقائها في السُّنْبُلِ، والمعنَى: اتركوا الزرْعَ في السُّنبُلِ إِلا ما لا غِنَى عنه للأكْلِ فيجتمع الطَّعام هكذا، ويتركَّب ويؤكَل الأَقْدَمُ فالأقدم، وروي أنَّ يوسُفَ عليه السلام لَمَّا خَرَجَ وَوَصَفَ هذا الترتيبَ للمَلِكِ، وأعجبه أمره، قال له المَلِكُ: قَدْ أسْنَدتُّ إِليك تولِّيَ هذا الأمْرِ في الأطْعِمَةِ هذه السنينَ المُقْبِلَة، فكان هذا أوَّلَ ما وَلِيَ يوسُفُ، و{تُحْصِنُونَ} معناه: تحرزون وتخزنون؛ قاله ابن عباس، وهو مأخوذٌ من الحِصْنِ، وهو الحِرْز والمَلْجَأُ؛ ومنه: تحصُّن النساءِ؛ لأنه بمعنى التحرُّز.
وقوله: {يُغَاثُ الناس}: جائز أنْ يكون من الغَيث، وهو قول ابن عبَّاس، وجمهور المفسِّرين، أي: يُمْطَرُون، وجائزٌ أنْ يكون من أغاثهم اللَّهُ: إِذا فَرَّجَ عنهم؛ ومنه الغَوْث، وهو الفَرَجُ، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: قال جمهور المفسِّرين: هي من عَصْر النباتاتِ، كالزيتون، والعَنَبِ، والقَصَبِ، والسِّمْسِمِ، والفِجْلِ، ومِصْرُ بَلَدُ عَصْرٍ لأشياء كثيرة.